فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان له شيء لا يقبح منه شيء وهو قادر على كل شيء، دل على ذلك بقوله: {إلا ما شاء} أي مدة شاءها فإنه لا يحكم لهم بذلك فيها فلا يدخلونها.
ولما كان الحال في هذه السورة مقتضيًا- كما تقدم- لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أخبر به سبحانه في قوله: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك}- الآية، من ضيق صدره، ولذلك أتى بهذه القصص كما مضى بيان ذلك، عبر باسم الرب إشارة إلى أنه يحسن إليه بكل ما يسر قلبه ويشرح صدره فقال: {ربك} وقد جرى الناس في هذا الاستثناء على ظاهره ثم أطالوا الاختلاف في تعيين المدة المستثناة، والذي ظهر لي- والله أعلم- أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين وأن الشرك لا يغفر والإيمان موجب للجنة فكان ربما ظن أنه لا يمكن غير ذلك كما ظنه المعتزلة لاسيما إذا تؤمل القطع في مثل قوله: {أن الله لا يغفر أن يشرك به} مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} جاء هذا الاستثناء معلمًا أن الأمر فيه إلى الله تعالى كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء وإن جزم القول فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبر به، وهذا كما تقول: اسكن هذه الدار عمرك إلاّ ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئًا، فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر كذلك الاستثناء لا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة، ثم رأيت الإمام أبًا أحمد البغوي قد ذكر معنى هذا آخر ما أورده في تفسيره من الأقوال في الآية وحكي نحوه عن الفراء، ومثله بأن تقول: والله لأضربنك إلاّ إن أرى، وعزيمتك أن تضربه، وعزاه الطحاوي في بيان المشكل إلى أهل اللغة منهم الفراء.
ولما كان تخليد الكفار من الحكم بالقسط بين الفريقين لأنه من أكبر تنعيم المؤمنين الذين عادوهم في الله كما تقدم التنبيه عليه أول سورة يونس عليه السلام عند قوله: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} كان ربما توهم أن الاستثناء لو أُخذ على ظاهره لم يكن إخراجهم من النار حينًا، نفى هذا التوهم بقوله: {إن ربك} أي المحسن إليك: {فعال لما يريد} أي لا يجوز عليه البدء بالرجوع عما أراد ولا المنع عن مراده ولا يتعذر عليه شيء منه مع كثرة المرادات فلا اعتراض عليه ولا يلزمه لأحد شيء، بل له أن يخلد العاصين في الجنة ويخلد الطائعين في النار، ولكنه كما ثبت ذلك ليعتقد لكونه من صفة الكمال ثبت أنه لا يفعل ذلك سبحانه ولا يبدل القول لديه لأن ذلك من صفات الكمال أيضًا مع أن في ختم الآية بذلك ترجية لأهل النار في إخراجهم منها زيادة في عذابهم.
ولما تم أمر الأشقياء، عطف عليه قسيمهم فقال: {وأما الذين سعدوا} أي فازوا بمطالبهم وتيسر أمرهم: {ففي الجنة} أي التي صارت معلومة من الدين بالضرورة: {خالدين فيها} دائمًا أبدًا: {ما دامت السماوات والأرض} على ما جرت به عادة العرب في إرادة التأبيد بلا آخر بمثل هذا: {إلاّ ما شاء ربك} وأدل دليل على ما قلت في الاستثناء قوله: {عطاء} هو نصب على المصدر: {غير مجذوذ} أي مقطوع ولا مكسور ولا مفصول- لعطاء من الأعطية ولا مفرق ولا مستهان به: لأنهم لو انفكوا من النعيم حقيقة أو معنى ولو لحظة لكان مقطوعًا أو منقوصًا؛ وفي الختم بذلك من الجزم بالدوام طمأنينة لأهل الجنة زيادة في نعيمهم عكس ما كان لأهل النار؛ قال أبو الحسن الرماني: والزفير: ترديد النفس مع الصوت حتى تنتفخ الضلوع، وأصله الشدة من المزفور الخلق، والزفر: الحمل على الظهر، لشدته، والزفر: السيد لأنه يطيق حمل الشدائد، وزفرت النار- إذا سمعت لها صوتًا في شدة توقدها، والشهيق: صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس، وأصله الطول المفرط من قولهم: جبل شاهق أي ممتنع طولًا؛ والخالد: الكائن في الشيء أبدًا، والدائم: الباقي أبدًا، ولهذا يوصف الله تعالى بالدائم دون الخالد.
ولما أخبره تعالى بوقوع القضاء بتمييز الناس في اليوم المشهود إلى القسمين المذكورين على الحكم المشروح مرهبًا ومرغبًا، كان ذلك كافيًا في الثبات على أمر الله والمضيّ لإنفاذ جميع ما أرسل به وإن شق اعتمادًا على النصرة في ذلك اليوم بحضرة تلك الجموع، فكان ذلك سببًا للنهي عن القلق في شيء من الأشياء وإن جل وقعه وتعاظم خطبه، فقال تعالى: {فلا} ولما كان ما تضمنه هذا التقسيم أمرًا عظيمًا وخطبًا جسيمًا، اقتضى عظيم تشوف النفس وشديد شوقها لعلم ما سبب عنه، فاقتضى ذلك حذف النون من كان إيجازًا في الكلام للإسراع بالإيقاف على المراد والإبلاغ في نفي الكون على أعلى الوجوه فقال: {تك} أي في حالة من الأحوال: {في مرية} والمرية: الشك مع ظهور الدلالة للتهمة- قاله الرماني: {مما يعبد هؤلاء} أي لا تفعل فعل من هو في مرية بأن تضطرب من أجل ما يعبدون مواظبين على عبادتهم مجددين ذلك في كل حي فتنجع نفسك في إرادة مبادرتهم إلى امتثال الأوامر في النزوع عن ذلك بالكف عن مكاشفتهم بغائظ الإنذار والطلب لإجابة مقترحاتهم رجاء الأزدجار كما مضى في قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك}- الآية، وذلك أن مادة مرى- بأيّ ترتيب كان- تدور على الاضطراب، وقد يلزمه الطرح والفصل: رمى يرمي رميًا، والمرماة: ظلف الشاة لأنه يطرح، والرمي: قطع من السحاب رقاق؛ والريم: البراح، ما يريم يفعل كذا: ما يزال، والريم: الدرج للاضطراب فيها، والقبر لنبذه في جانب من الأرض وطرح الميت فيه، وريم فلان بالمكان: أقام به مجاوزًا لغيره منفصلًا عنه كأنه رمى بنفسه فيه، وريمت السحابة- إذا دامت فلم تقلع، لأن من شأنها رمي القطر، ومرى الضرع: مسحه للحلب، والريح تمري السحاب، والمري: المعدة لقذفها ما فيها، والمرية: الشك، أي تزلزل الاعتقاد، والميرة: جلب الطعام؛ ثم استأنف تعالى خبرًا هو بمنزلة العلة لذلك فقال: {ما يعبدون} أي يوقعون العبادة على وجه الاستمرار: {إلاّ كما يعبد آباؤهم} ولما كانت عبادتهم في قليل من الزمن الماضي أدخل الجار فقال: {من قبل} أي أنهم لم يفعلوا ذلك لشبهة إذا كشف عنها القناع رجعوا، بل لمحض تقليد الآباء مع استحضارهم لتلبسهم بالعبادة كأنهم حاضرون لديهم يشاهدونهم مع العمى عن النظر في الدلائل والحجج كما كان من قصصنا عليك أخبارهم من الأمم في تقليد الآباء سواء بسواء مع عظيم شكيمتهم وشدة عصبتهم للأجانب فكيف بالأقارب فكيف بالآباء! فأقم عليهم الحجة بإبلاغ جميع ما نأمرك به كما فعل من قصصنا عليك أنباءهم من إخوانك من الرسل غير مخطر في البال شيئًا مما قد يترتب عليه إلى أن ينفذ ما نريد من أوامرنا كما سبق في العلم فلا تستعجل فإنا ندبر الأمر في سفول شأنهم وعلو شأنك كما نريد: {وإنا} بما لنا من العظمة: {لموفوهم نصيبهم} من الخير والشر من الآجال وغيرها وما هو ثابت ثباتًا لا يفارق أصلًا؛ ولما كانت التوفية قد تطلق على مجرد الإعطاء وقد يكون ذلك على التقريب، نفى هذا الاحتمال بقوله: {غير منقوص} والنصيب: القسم المجعول لصاحبه كالحظ؛ والمنقوص: المقدار المأخوذ جزء منه؛ والنقص: أخذ جزء من المقدار. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال العلامة النيسابوري رحمه الله:

.القراءات:

{وما يؤخره} بالياء: يعقوب والمفضل. الباقون بالنون: {يوم يأتي} بإثبات الياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعر ونافع وأبو عمرو وعلي في الوصل. الآخرون بحذف الياء: {لا تكلم} بتشديد التاء: البزي وابن فليح: {سعدوا} بضم السين: حمزة وعلي وخلف وحفص. قيل إنه على حذف الهمزة من أسعدوا لأن: {سعدوا} لازم ولكنه قد جاء المسعود، الآخرون بفتحها: {وإن كلًا} بالتخفيف: ابن كثير ونافع وأبو بكر وحماد. الباقون بالتشديد: {لما} مشددًا: ابن عامر وعاصم ويزيد وحمزة وكذلك في الطارق. الباقون بالتخفيف: {وزلفًا} بضمتين: يزيد. الآخرون بفتح اللام: {فؤادك} وبابه بغير همز: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف: {يرجع} مجهولًا: نافع وحفص والمفضل: {تعملون} خطابًا وكذلك في آخر النمل: أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص. الباقون على الغيبة.

.الوقوف:

{الآخرة} ط {مشهود} o {معدود} ط {بإذنه} ج لاختلاف الجملتين مع فاء التعقيب: {وسعيد} o {شهيق} o لا لأن ما يتلوه حال والعامل فيه ما في النار من معنى الفعل: {شاء ربك} ط {يريد} o {شاء ربك} ط لأن التقدير يعطون عطاء: {مجذوذ} o {هؤلاء} ط {من قبل} ط {منقوص} o {فاختلف فيه} ط {بينهم} ط {مريب} o {أعمالهم} ط {خيبر} o {ولا تطغوا} ط {بصير} o {النار} لا لأن ما بعده من تمام جزاء ولا تركنوا: {تنصرون} o {من الليل} ط {السيئات} ط {للذاكرين} o {المحسنين} o {منهم} ج لأن التقدير وقد اتبع: {مجرمين} o {مصلحون} o {مختلفين} o لا {رحم ربك} ط {خلقهم} ط {أجميعن} o {فؤادك} ج إذ التقدير وقد جاءك: {للمؤمنين} o {مكانكم} ط {عاملون} o لا للعطف: {وانتظروا} ج أي فإنا: {منتظرون} ط {وتوكل عليه} ط {تعملون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة: {يَأْتِ} بحذف الياء والباقون بإثبات الياء.
قال صاحب الكشاف: وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل، ونحوه قولهم لا أدر حكاه الخليل وسيبويه.
المسألة الثانية:
قال صاحب الكشاف: فاعل يأتي هو الله تعالى كقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} [البقرة: 210] وقوله: {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] ويعضده قراءة من قرأ: {وَمَا يؤخره} بالياء أقول لا يعجبني هذا التأويل، لأن قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} حكاه الله تعالى عن أقوام والظاهر أنهم هم اليهود، وذلك ليس فيه حجة وكذا قوله: {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} أما هاهنا فهو صريح كلام الله تعالى وإسناد فعل الإتيان إليه مشكل.
فإن قالوا: فما قولك في قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ}.
قلنا: هناك تأويلات، وأيضًا فهو صريح، فلا يمكن دفعه فوجب الامتناع منه بل الواجب أن يقال: المراد منه يوم يأتي الشيء المهيب الهائل المستعظم، فحذف الله تعالى ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف.
المسألة الثالثة:
قال صاحب الكشاف: العامل في انتصاب الظرف هو قوله: {لاَ تَكَلَّمُ} أو إضمار اذكر.
أما قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ففيه حذف، والتقدير: لا تكلم نفس فيه إلا بإذن الله تعالى.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين سائر الآيات التي توهم كونها مناقضة لهذه الآية منها قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] ومنها أنهم يكذبون ويحلفون بالله عليه وهو قولهم: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ومنها قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤلون} [الصافات: 24] ومنها قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يؤذن لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35].
والجواب من وجهين: الأول: أنه حيث ورد المنع من الكلام فهو محمول على الجوابات الحقية الصحيحة.
الثاني: أن ذلك اليوم يوم طويل وله مواقف، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم.
أما قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال صاحب الكشاف: الضمير في قوله: {فَمِنْهُمْ} لأهل الموقف ولم يذكر لأنه معلوم ولأن قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} يدل عليه لأنه قد مر ذكر الناس في قوله: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} [هود: 103].
المسألة الثانية:
قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} يدل ظاهره على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين.
فإن قيل: أليس في الناس مجانين وأطفال وهم خارجون عن هذين القسمين؟
قلنا: المراد من يحشر ممن أطلق للحساب وهم لا يخرجون عن هذين القسمين.
فإن قيل: قد احتج القاضي بهذه الآية على فساد ما يقال إن أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النار فما قولكم فيه؟
قلنا: لما سلم أن الأطفال والمجانين خارجون عن هذين القسمين لأنهم لا يحاسبون فلم لا يجوز أيضًا أن يقال: إن أصحاب الأعراف خارجون عنه لأنهم أيضًا لا يحاسبون، لأن الله تعالى علم من حالهم أن ثوابهم يساوي عذابهم، فلا فائدة في حسابهم.
فإن قيل: القاضي استدل بهذه الآية أيضًا على أن كل من حضر عرصة القيامة فإنه لابد وأن يكون ثوابه زائدًا أو يكون عقابه زائدًا، فأما من كان ثوابه مساويًا لعقابه فإنه وإن كان جائزًا في العقل، إلا أن هذا النص دل على أنه غير موجود.
قلنا: الكلام فيه ما سبق من أن السعيد هو الذي يكون من أهل الثواب، والشقي هو الذي يكون من أهل العقاب، وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث، والدليل على ذلك: أن أكثر الآيات مشتملة على ذكر المؤمن والكافر فقط، وليس فيه ذكر ثالث لا يكون لا مؤمنًا ولا كافرًا مع أن القاضي أثبته، فإذا لم يلزم من عدم ذكر ذلك الثالث عدمه فكذلك لا يلزم من ذكر هذا الثالث عدمه.
المسألة الثالثة:
اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيدٌ، وعلى بعضهم بأنه شقيٌ، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبًا وعلمه جاهلًا وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيًا وأن الشقي لا ينقلب سعيدًا، وتقرير هذا الدليل مر في هذا الكتاب مرارًا لا تحصى.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} قلت يا رسول الله فعلى ماذا نعمل على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: «على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار، ولكن كل ميسر لما خلق له» وقالت المعتزلة: نقل عن الحسن أنه قال: فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله.
قلنا: الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات وأيضًا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلًا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيًا.
واعلم أنه تعالى لما قسم أهل القيامة إلى هذين القسمين شرح حال كل واحد منهما فقال: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ذكروا في الفرق بين الزفير والشهيق وجوهًا:
الوجه الأول: قال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ولم يخرجه، والشهيق أن يخرج ذلك النفس، وقال الفراء: يقال للفرس إنه عظيم الزفرة أي عظيم البطن وأقول إن الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب فإذا انحصر الروح قويت الحرارة وعظمت وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء كثيرًا باردًا حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة، فلهذا السبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل البدن وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه، ولما كانت الحرارة الغريزية والروح الحيواني محصورًا داخل القلب استولت البرودة على الأعضاء الخارجة فربما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهواء الكثير المستنشق فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصرًا في الصدر ويقرب من أن يختنق الإنسان منه وحينئذ تجتهد الطبيعة في إخراج ذلك الهواء فعلى قياس قول الأطباء الزفير هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه، والشهيق هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطبيعة في إخراجه وكل واحدة من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم.